محمد عبد الحليم دياب
كان إعلان قيام الوحدة المصرية السورية بمثابة دماء وحدوية غزيرة جرت في شرايين القوميين العرب، وكان ذلك في وضح النهار، أما في السر حدث العكس، وجرت دماء معاكسة في أوردة عرب الرِّدَّة وجرحى ومصابي التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكبرى، التي زلزلت عروش، وهزت قامات وسياسات، ظاهرها التأييد وباطنها التآمر والغدر، وارتبطت بمصالح قوى معادية محلية وإقليمية ودولية، وصب ذلك في مجرى المشروع الصهيوني، وكان الانفصال الذي وقع في 28 أيلول/سبتمبر 1961 بداية انتهت بهزيمة عسكرية في 1967، وجاء الرفض الشعبي الواسع لتلك الهزيمة، فحال دون تحولها لهزيمة سياسية، وذلك سمح بحرب استنزاف عظيمة لم تُمَكن العدو من الاستمتاع بنصره العسكري، ومَثَّل الاستنزاف الحرب الأطول في تاريخ الحروب العربية الصهيونية، وهيأ الجيوش العربية لخوض معركة تشرين الأول/أكتوبر 1973، وقد أبلت فيها بلاء حسنا.
والنصر العسكري، إذا لم يتحول لنصر سياسي، يعتبر نصرا ناقصا، يتحول لهزيمة سياسية تنقذ العدو من مصيره المحتوم، وهي جريمة تغطت بترديد مقولة 99 في المئة من الأوراق في يد الولايات المتحدة، فتلاشى النصر الناقص، واستبدل باستسلام مجاني لواشنطن، وضاع الرفض الكاسح للهزيمة العسكرية، والتفريط فيما حققته حرب الاستنزاف التاريخية، والتفريط في عائدها المعنوي والتاريخي، بتواطؤ متعمد في التعامل مع نصر أكتوبر العسكري.
وأشارت دراسة للكاتب محمود سعد دياب منشورة في صحيفة «الأهرام» في الذكرى الستين للوحدة في 22/ 02/ 2018؛ أشارت لدور المخابرات الأمريكية في ضرب دولة الوحدة بالتعاون مع نظيرتها البريطانية والصهيونية، ويضاف إليها دور المخابرات السعودية، ورئيسها كمال أدهم، وكان لهما الدور الأكبر في التحريض والتمويل، وتقديم التسهيلات البرية والبحرية والجوية، فمنذ اليوم الأول لإعلان الوحدة بَنَت السياسة السعودية استراتيجيتها على إجهاض أي عمل وحدوي بين بلدين عربيين أو أكثر. وتعددت دوافع الدول الثلاث، إلا أنها اجتمعت على منع إمكانية وجود منافس غير غربي على مسارات النفط إلى أوروبا، سواء كان ذلك عبر قناة السويس، أو عن طريق الأنابيب المارة بسورية، وإمكانية تأثير الدور الفاعل للجمهورية العربية المتحدة على المصالح الأمريكية والغربية، وتحول ذلك الاحتمال إلى كابوس ممثل في الدولة العربية الجديدة، وفي رئيسها جمال عبد الناصر. ولم يجد الكاتب تفسيرا لشرح الدوافع الحقيقية للانقلاب على الوحدة، كطموح مشروع لدول مستقلة ذات سيادة، وعزا ذلك لنشاط طابور خامس، ممثل في (الشركة الخماسية) السورية، التي أدارت دولاب الانفصال، ودعمت الانفصاليين، وكل من فزع من الوحدة، والشخصيات العشائرية والمالية والسياسية.
وهو ما أكد عليه الأكاديمي والباحث الأمريكي الفلسطيني دياب عيوش، الذي لم يجد تفسيرا منطقيا للدوافع الحقيقية للانفصال، فعاد لذاكرته ليكتب عبرها (ما لم يقله أحد عن دينامو الانفصال)، حسب تعبيره، وكان حافزه على ذلك عوامل ثلاثة:
العامل الأول: هو امتلاك معلومات خاصة وحاسمة عن أسباب الانفصال لم تأخذ حقها من التحليل والتفسير والبيان. ما أعظم الغرس الوحدوي في عقول الأجيال الشابة الحالية، التي أعيتها الحيل الانفصالية، والأكاذيب الانعزالية، وذلك من أجل مستقبل أفضل تبنيه سواعد هذه الأجيال الشابة، وعلى الأجيال الأكبر الأخذ بيدها في هذه الظروف الصعبة، فهم في حاجة ماسة لسلامة الرؤية وصلابة الموقف
والعامل الثاني: أنه خريج جامعة دمشق، مطلع جيد على أحوال سورية من أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، ويعرف كثيرا من الشخصيات التي تتردد أسماؤها في هذا السياق، ولم ينقطع عن سورية سوى في السنوات الأخيرة، التي جرى فيها غزو سورية وتدميرها بتخطيط جهات عربية وإقليمية ليست خافية على أحد.
والعامل الثالث: هو الرغبة في إنصاف الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر، والسياسي العربي الراحل عبد الحميد السراج، مما اتهما به بالدكتاتورية والطغيان!!.
ورأى أن أقوى المزاعم لتبرير الانفصال كانت ما تردد عن (بروز دكتاتورية عسكرية مصرية مستبدة ومركزية)، و(إدعاءات تمتّع الضباط المصريين بامتيازات لم تُعط للسوريين)، و(أن أولئك الضباط كانوا يستكبرون على زملائهم السوريين ويحصلون على رتب أعلى وترقيات أكثر من القيادة العليا، مما أثار الحقد والضغينة في نفوسهم، وخلق لديهم شعورا بالإذلال وباضطهاد المصريين لهم، واتخذ ذلك سبيلا لتشجيع بعضهم على القيام بانقلاب ضد الجمهورية العربية المتحدة). يضاف إلى هذا ما تردد عن (تأميم عبد الناصر البنوك الخاصة، والشركات الصناعية الكبيرة)، و(السياسات الاستبدادية) المزعومة لحكومة الوحدة في الإقليم الجنوبي، و(غياب التواصل على الأرض بين الإقليمين)، و(وجود دوله عدوّة قوية بينهما)، وتلك المزاعم ساهمت في مضايقة السوريين الذين كانوا يفتخرون بالتعددية السياسية!!. ولم ينظروا إلى الوحدة كمصدر قوة وأمل للأغلبية العظمى من الشعب، وللمتعطشين إلى لم الشمل العربي كطريق مضمون للقوة والتطور والحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، ولهذا واجهت الوحدة من بداياتها عام 1958 تحديات داخلية كثيرة ومؤامرات خارجية كبيرة.
فعلى الصعيد الداخلي، كانت الشركة الخُماسية أكبر مؤسسة خاصة في سورية، وكذلك الأحزاب المناهضة للوحدة، وكانوا في مقدمة غير الراضين عنها، وتضافرت جهودهم، على ما بينهم من اختلاف الرؤى لهدمها، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبلها. وعلى الصعيد الخارجي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، والدولة الصهيونية، ودول أوروبية وعربية وإسلامية معادية للوحدة؛ كان لا يهدأ لهم بال قلقا من الدولة الموحدّة الوليدة. وكان دورهم الأساسي بث الفتن بين طرفيها، ومحاصرتها سياسيا وتهديدها عسكريا.
بدأ التآمر بإقناع ضباط سوريين كبار بالانفصال. وكان عبد الحميد السراج النائب الثاني للرئيس عبد الناصر، وحاكم سورية في عهد الوحدة يواجهها واحدة تلو الأخرى، وقد روى عيوش عن لقاء خاص بأحد اللاجئين السياسيين العرب في دمشق عام 1962 وذكر إن السراج جمع كبار رجال الأمن في دمشق قبيل حدوث الانفصال وأبلغهم أنه يَشُم رائحة انقلاب عسكري على الوحدة وأنه يريد منهم ألا يناموا الليل، وأن يتحلوا بأقصى درجات اليقظة لتتبع الحركات الانفصالية وتواصلها معا، ولم تمض بضعة أيام حتى عَلِم بأن هناك اجتماعا سريا لضباط كبار في أحد أقبية منطقة (السبع بحرات) في دمشق للتخطيط للإطاحة بحكومة الوحدة. فما كان من السراج ألا أن داهم المبنى، وعندما دخل عليهم صُعقوا من حضوره ووقفوا يؤدون له التحية. عندئذ أخبرهم أنه على علم بتحركاتهم وأنه يلفت نظرهم لسوء عملهم، وحذرهم مما سيحصل إذا ما كرروا مثل هذا العمل ثانية، وغادر المكان (والكلام ما زال للاجئ السياسي)، فغادروه بعده مهرولين، متهمين بعضهم بعضا بإفشاء سر الاجتماع. وعلى الرغم من القبضة القوية للسراج على الداخل السوري ومتابعته الدقيقة لكل تحرّك، استمرت المؤامرات على الوحدة بطرق ملتوية ودهاء أكبر، مما يشير إلى عوامل أخرى أقوى مما ذُكِر ونُشِر عن أسباب وقوع الانفصال.
وسقِط حكم الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 أيلول/سبتمبر 1961، وحملت سورية اسم الجمهورية العربية السورية، واحتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971 عندما غيره أنور السادات وأطلق عليها اسمها الحالي جمهورية مصر العربية.
وأبناء (القارة العربية) وهم في أمس الحاجة إلى استعادة الروح والمثل التي حركت الجموع وراء هدف الوحدة، في مرحلة مجيدة من مراحل الكفاح القومي، عليهم الاستفادة من دروسها واستخلاص العِبَر من نجاحها وإخفاقها والتآمر عليها. وما أعظم الغرس الوحدوي في عقول الأجيال الشابة الحالية، التي أعيتها الحيل الانفصالية، والأكاذيب الانعزالية، والتدليس القُطْري، وذلك من أجل مستقبل أفضل تبنيه سواعد هذه الأجيال الشابة، وعلى الأجيال الأكبر الأخذ بيدها في هذه الظروف الصعبة، فهم في حاجة ماسة لسلامة الرؤية وصلابة الموقف.