أحمد بهاء الدين
عندما قال الرئيس جمال عبد الناصر في حديثه إلى الأمة العربية مساء الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول 1961: (أعان الله سورية الحبيبة على أمورها، وسدد خطاها وبارك شعبها). كان يكتب بذلك السطور الأخيرة في كتاب ذهبي، استغرقت صفحاته ما يقرب من أربع سنوات، هو كتاب الوحدة بين سورية ومصر.
وهو ليس الكتاب الأول ولا الكتاب الأخير، ولكنه جزء آخر من أجزاء كتاب مستمر خالد، هو كتاب الأمة العربية، بساعات نصرها وهزيمتها، وبسنوات أفولها وسنوات إشراقها.
والذي حدث هو أن فئة قليلة من ضباط الجيش السوري استطاعت أن تستولي في ساعات الليل الأخيرة على دار الإذاعة وعلى المراكز الحساسة في دمشق، وأن تبدأ إذاعة بياناتها التي انتهت إلى المطالبة بالانفصال الكامل عن الجمهورية العربية المتحدة. وقد قابل شعب سورية هذا الانقلاب أول الأمر بالوجوم، وانتهز الانقلابيون لحظات هذا الوجوم الثمينة لكي يدعموا مراكزهم ويشددوا قبضتهم على أرجاء البلاد. وعندما أفاق شعب سورية إلى نفسه، وانطلقت مظاهراته وهتافاته، وسقط جرحاه وقتلاه وهم يهتفون بالوحدة، كان الموقف كله قد أصبح خطيرا ليس له إلا واحد من ثلاثة حلول:
- إما عملية عسكرية توجه من القاهرة إلى سورية لقهر قوات الانقلاب المسلحة.
- وإما حرب أهلية بين السوري والسوري.
- وإما إنهاء التجربة التي دامت ما يقرب من أربع سنوات.
ولقد آثر الرئيس جمال عبد الناصر، في ساعات الظلام والخطر، أن يتغلب العقل، ويتغلب المبدأ على اعتبارات اللحظة والمرحلة. فاستبعد الحل الأول حتى لا يراق فيه دم السوري ودم المصري، وينفتح في جسد الأمة العربية جرح لا يلتئم بسرعة.
واستبعد الحل الثاني، بل وجه الخطاب إلى شعب سورية، يناشده أن يضع الوحدة الوطنية فوق كل اعتبار، بعد أن بدا أن كثير من القوى الأجنبية يمكن أن تحاول استغلال هذه الفتنة لنشر الفوضى في المنطقة العربية، ولتحقيق مكاسب ضد مصالح الوطن العربي من خلال هذه الفوضى.
وهكذا اختار جمال عبد الناصر الحل الأخير، مؤثرا اعتبارات المصلحة العربية العليا، قبل أي اعتبار آخر.
وإنه لمن القليل النادر، في عالم اليوم المتصارع المضطرب، أن نجد قرارا سياسيا، أو بيانا سياسيا، حظي بالتقدير والإعجاب الشامل من شتى الفئات والجهات، كما حدث بالنسبة لهذا القرار الذي اتخذه جمال عبد الناصر، والبيان الذي أذاعه مساء الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول.
وعندما نتأمل (خلاصة) ما حققه هذا القرار السياسي التاريخي، نجد أنه:
أولا: ألغى احتمالات قيام حرب أهلية عربية.
ثانيا: أغلق الباب في وجه احتمالات التدخل الأجنبي خلال المحنة العربية.
ثالثا: أنقذ عقيدة القومية العربية والوحدة العربية من تخريب مؤكد، متعمد، تتعاون عليه قوات الانفصال، والقوى الأجنبية، والمشاعر الجريحة الثائرة على السواء.
والدارس للتاريخ العربي- قديمه وحديثه- يستطيع أن يدرك أي ضرر أصاب الأمة العربية من مثل هذه الفتن، ويستطيع بالتالي أن يدرك أي درس جديد بليغ تتعلمه الأمة العربية من مثل هذا القرار الذي اتخذه واحد من أبطال تاريخها الأبرار.
وقد أطلق الرأي العام العربي- في تعبير تلقائي- على قادة الانقلاب ومحركيه صفتين أساسيتين هما: الانفصالية والرجعية.
وأنهما لصفتان تستحقان الوقوف عند كل منهما وقفة قصيرة، لأنهما مفتاح القضية كلها.
فنحن حين نتأمل الحقبة القريبة من التاريخ العربي الحديث، نجد أنه كان هناك دائما تياران: تيار يتجه إلى الوحدة، وتيار يتجه إلى الانفصال، وكل واحد من هذين التيارين الأساسيين، يحتوي في باطنه على تيارات فرعية صغيرة.
أما تيار الوحدة فقد كان يغذيه على الدوام عاملان:
العامل الأول: هو الإحساس بأن العالم كله يتجه إلى مزيد من الوحدة. فالتفاصيل تختفي بالتدريج من خريطة العالم لتحل محلها (وحدات) إنسانية أكبر وأشمل. وقد تزايد شعور الدول الصغيرة بالحاجة إلى الذوبان في وحدات أكبر بعد الحرب العالمية الثانية، حين استأثر بالمسرح الدولي ماردان عملاقان هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، ثم حين استقلت الهند كدولة واحدة، وحين أنهت الصين حروبها الأهلية وتوحدت في دولة واحدة. في هذا الجو ظهرت صيحات الوحدة في البلقان، وفي غرب أوروبا، وفي أفريقيا. فتعقد الحياة، وتزايد حاجات الإنسان، ونمو حجم المؤسسة الإنتاجية، ونمو حجم البحث العلمي وتضخم تكاليفه، كل هذه الأسباب جعلت الحاجة ماسة إلى وطن أكبر، وسوق واحد أكبر، وتنوع في الموارد، وتكامل في الجهد الإنتاجي أكبر. وها نحن نرى بأعيننا نمو تجربة رائدة كتجربة السوق الأوروبية المشتركة، تجربة تغير خريطة أوروبا كما لم تغيرها كل حروب القرن التاسع عشر والقرن العشرين، تجربة تضم شعوبا حاربت وتطاحنت في تنظيمات اقتصادية ثم اجتماعية واحدة. وفي تاريخ قريب محدد، سيكون من حق أي عامل في غرب أوروبا أن يعمل في أي بلد، ومن حق أي مال في غرب أوروبا أن يستقر في أي بلد، كخطوات في الطريق نحو توحيد أشمل وأعمق.
أما العامل الثاني، الذي كان ولا يزال يغذي تيار الوحدة في البلاد العربية، فهو في الواقع ليس الثاني في الأهمية، ولكنه الأول في الظهور كعامل مؤثر وما زال الأول في الأهمية، ذلك هو الشعور الذي يحس به كل فرد في كل قطر عربي بالانتماء إلى أمة أكبر وإلى وطن أشمل من وطنه المرسوم على الخريطة. هذا الشعور بالانتماء إلى أمة عربية واحدة ظل ينمو خلال التاريخ العربي الحديث بلا انقطاع، بعد أن دفنه الاستعمار التركي والانهيار الحضاري تحت التراب زمنا طويلا. وهو شعور تشارك في تكوينه عناصر مادية وسياسية وتاريخية ونفسية وثقافية كثيرة. المهم أن هذا الشعور، وإن كان ينبع من هذه العوامل، إلا أنه وصل إلى درجة من القوة جعلته في حق ذاته عاملا قويا مؤثرا على الأحداث تأثيرا عميقا.
هذا التيار الكاسح المندفع في اتجاه الوحدة، كان يعترضه أو يتعارض معه تياران آخران:
تيار يرفع شعارات الوحدة، ولكنها شعارات لا تستهدف الوحدة الشعبية بنتائجها التحررية التي لا بد منها، ولكنها تستهدف القبض على زمام ذلك الجواد المندفع المسمى بالوحدة، وليس قيادته في اتجاه آخر، كالدعوة إلى مشروع الهلال الخصيب مثلا. إذ كانت في ظاهرها محاولة لتوحيد عدد من الأقطار العربية، ولكنها كانت في الحقيقة تستهدف استرجاع سورية الجمهورية المنطلقة بعد الحرب الثانية وردها إلى حظيرة النظام الإقطاعي المرتبط بالاستعمار، الذي يهيمن عليه العرش الهاشمي.
والتيار الثاني تيار الانفصال. فمرور عشرات من السنين على تقسيم البلاد العربية خلق مصالح معينة لا تعيش إلا في نطاق الأوضاع القائمة. والخشية التي تساور المصالح الاستعمارية الأجنبية من قيام دولة عربية واحدة تجعلها تغذي هذه العناصر الانفصالية، لأن إبقاء النفوذ الأجنبي في وطن عربي منقسم أسهل بكثير من محاولة إبقاء هذا النفوذ في وطن قوي متحد. يضاف إلى ذلك النعرات المحلية التي لا يخلو منها أي بلد في العالم، إلى جانب المحاولات القديمة لتضخم مشاكل الأقليات وإذكاء الصراع بشأنها، حتى تصبح في حد ذاتها عقبة تحول دون تحقيق حلم الوحدة الكبير. الانفصالية إذن لها رواسب قديمة ولها أنصار ورجال.
ومن استمع إلى إذاعة راديو دمشق عقب الانقلاب الانفصالي، لاحظ ولا شك النزعات والنعرات التي تحاول دعاية الانقلاب إذكاءها. فقد ظنت في بداية الأمر، أنها بتوجيهها الخطاب إلى (الوطنية السورية) سوف تستنفر هذه الوطنية ضد القومية العربية.
ولكن دعاية الانقلاب، بعد يوم واحد فقط من هذه المحاولة، لجأت إلى التستر وراء اسم القومية العربية والوحدة العربية وشعاراتها، وفي إسراف ينبئ عن رد الفعل العنيف الذي قوبلت به محاولة إلقاء هذه الشعارات في سلة المهملات.
وترديد شعارات الوحدة العربية لا ينفي بالضبط عن الانقلاب نزعته الانفصالية، ولكن مجرد اضطرار الانفصاليين إلى الإسراف- ولو مع التزييف- في استخدام شعارات الوحدة، أمر له مغزاه، إذ يدل على عمق فكرة الوحدة في النفوس. وطالما أن الفكرة باقية، فسوف تقوى في يوم ما على طرح الزيف المتردد والاحتفاظ باللون الأصيل.
بقي بعد ذلك أن نوضح لماذا نصف هذا الانقلاب الانفصالي بأنه رجعي؟.
كيف نقول إنه انقلاب رجعي، وهو يعد بإطلاق الحريات وإجراء انتخابات والسماح بحرية انتقال رؤوس الأموال، سواء في ذلك انتقال رؤوس الأموال السورية إلى الخارج أو انتقال رؤوس الأموال الأجنبية إلى الداخل؟.
نعم، إننا نقول إنه رجعي رغم هذه الوعود، بل وأحيانا (بسبب) بعض هذه الوعود بالذات.
(فالحرية) ليست كلمة مجردة، خالية من المعنى. إن الحرية كلمة يتغير معناها في القاموس السياسي من عصر إلى آخر، بل ومن بلد إلى آخر.
ما هي المشكلة الرئيسية التي تواجه شعب سورية داخليا، وأي شعب آخر من شعوبنا العربية اليوم؟.
إنها ولا شك مستوى المعيشة المنخفض، والفقر، أي التخلف الاقتصادي الذي يؤدي إلى التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي والوطني، فضلا عن انعدام العدل الاجتماعي.
ما طريقة حل هذه المشكلة؟.
إنها ولا شك طريقة واحدة: التنمية الاقتصادية.
ما أسلوب التنمية الاقتصادية؟.
التوجيه والتخطيط، بقصد تحويل المدخرات القومية من مصروفات ترفيهية وكمالية في أيدي القلة، إلى ثمن آلات ومعدات وخبرات لبناء السدود وإقامة المصانع واستصلاح الأراضي وشق الطرق.
ما العقبة في سبيل تنفيذ هذه العملية؟.
العقبة هي أن هذه المدخرات موجودة في أيدي الأقلية. وأن هذه الأقلية تقاوم للاحتفاظ بما في يدها، وبالتالي فهي تقاوم عملية التنمية على الوجه الصحيح، أي تقاوم التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
تحت أي شعار تريد هذه الأقلية أن تحتفظ بهذه المدخرات؟.
تحت شعار الحرية، الحرية الاقتصادية، حرية الفرد في أن يهرب ملايين الليرات إلى خارج البلاد. فهو حر في أملاكه. كما أن الفقير حر في فقره.
ولكننا نفهم الأمور على نحو آخر تماما، إننا نرى أن هذه الملايين من الليرات هي عرق الشعب وكدحه في حقول القمح وأمام آلات النسيج. وإن (حق) ملايين السوريين في هذه الأموال فوق (حرية) القليلين في استغلالها أو إهدارها.
ومن الوهلة الأولى، لم يخف أصحاب الانقلاب الانفصالي هذا اللون الرجعي، إذ هاجموا القوانين الاشتراكية التي تقوم على تمليك الشعب أدوات الإنتاج الكبرى، وتوزيع جانب من أرض الإقطاع على الفلاحين، وتحديد نسبة من أرباح المؤسسات توزع على العاملين فيها، واشتراك العمال في عضوية مجالس الإدارات.
وإذا كان الانقلاب قد تراجع هنا أيضا بعد أيام، وقال إنه يترك مهمة إلغاء هذه القوانين وخنقها لأول برلمان، فليس هذا أيضا إلا تراجعا أمام الضغط الشعبي، يخفي من وراءه تآمرا وانتظارا للخطة المواتية لسحق هذه القوانين.
أما بالنسبة لما قيل عن إطلاق حرية الأحزاب، فلا يجب هنا أن تخطر على بالنا صورة الأحزاب بمعناها الأوروبي مثلا. إن معناها في الواقع خلق عدد كبير جدا من الفئات المتناحرة، التي يؤدي تناحرها وتساويها في القوة إلى تجمد التطور الاجتماعي والاحتفاظ بالأشكال الاجتماعية القديمة على حالها، بينما الصراع السياسي لا يتعدى الكلام. فللأحزاب قاعة البرلمان، وللإقطاعيين والرأسماليين الأرض ورؤوس البرلمان.
وليس هذا هو الوضع المثالي لمرحلة من الثورة والانقلاب الاجتماعي والتغيير الجذري في حياة الأمة العربية.
وبعد. فإن هذا الانقلاب قد أصاب القومية العربية ولا شك بضربة أليمة. ولكن الضربة حلت (بالجسد المادي) للقومية العربية، وهو وحدة سورية ومصر، ولكنها لم تضعف العقيدة ذاتها ولم تزعزع مكانها العميق في نفوس أبناء الأمة العربية.
والانقلاب- إذ تكون من تحالف بين الانفصالية وبين الرجعية الاجتماعية- قد أنار السبيل ولا شك أمام الملايين من العرب، الذين كانوا لا يرون هذه الرابطة بين القوتين بوضوح كاف، أو كانوا لا يؤمنون بأن تحقق الوحدة العربية مرتبط بالتيار التقدمي العربي. ولكنهم الآن قد رأوا وآمنوا. وتلك فائدة هامة نخرج بها من المأساة.
عناوين داخلية:
من القليل النادر، في عالم اليوم المتصارع المضطرب، أن نجد قرارا سياسيا، أو بيانا سياسيا، حظي بالتقدير والإعجاب الشامل من شتى الفئات والجهات، كما حدث بالنسبة لهذا القرار الذي اتخذه جمال عبد الناصر، والبيان الذي أذاعه مساء الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشعور الذي يحس به كل فرد في كل قطر عربي بالانتماء إلى أمة أكبر وإلى وطن أشمل من وطنه المرسوم على الخريطة. هذا الشعور بالانتماء إلى أمة عربية واحدة ظل ينمو خلال التاريخ العربي الحديث بلا انقطاع، بعد أن دفنه الاستعمار التركي والانهيار الحضاري تحت التراب زمنا طويلا. وهو شعور تشارك في تكوينه عناصر مادية وسياسية وتاريخية ونفسية وثقافية كثيرة.