انطلق طوفان البشر طول الليل ينشد بصوت واحد مهيب كلمات أغنية حزينة وما لبثنا أن وجدنا أنفسنا ننشد مع الناشدين والدموع تسيل بغزارة مياه النيل الذي يمر أمامنا . كانت الأغنية تقول …
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين … الوداع .
ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين … الوداع .
أنت عايش في قلوبنا يا جمال الملايين … الوداع .
أنت ثورة ، أنت جمرة نذكرك طول السنين … الوداع .
أنت نوارة بلدنا واحنا عذبنا الحنين … الوداع .
أنت ريحانة زكية لأجل كل الشقيانين … الوداع .
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين … الوداع .
وحتى الآن لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انطلق هذا النشيد من كل هذه الألسنة ، ولا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انتشر بين ملايين البشر ولا كيف حفظوا كلماته وألحانه !!
قيل إنه في اليوم السابق للجنازة ، طافت شوارع القاهرة فرقة فنية من أبناء بور سعيد المهاجرين يرددون الشعارات ، ووسط هتافاتهم الحزينة ولدت هذه الأغنية . من ألف كلماتها ؟ لا أحد لديه الجواب . كانت بدايتها بيتاً من الشعر كتبه (( عبد الرحمن عرنوس )) مدرب فرقة (( شباب البحر )) . كان البيت يقول (( الوداع يا جمال يا حبيب الملايين … الوداع )) وانطلق أفراد الفرقة يرددونه في نغمات حزينة وانضم إليهم ملايين البشر فولدت الكلمات تباعاً وسط البكاء والولولة … أما اللحن فقد وضعته الجماهير من خلال نواح النساء وعويلهن .
وطبعت منه ملايين الاسطوانات والأشرطة ليسمعها كل بيت في طول البلاد وعرضها .
ومر الليل الثقيل ولم ينم أحد . كانت الأمة كلها ساهرة تحضر (( للموكب الجنائزي )) الذي ستشارك فيه في اليوم التالي . وامتلأت الشوارع والحدائق والمنازل . كانت الجمهورية كلها خرجت في العاصمة وفي الأقاليم لتودع القائد والزعيم .
وحينما خرجنا في الصباح الباكر لنعبر (( كوبري قصر النيل )) إلى أرض الجزيرة حيث يوجد (( مجلس الثورة )) ، ظهر لنا أن كل ما خططنا له يصعب علينا تنفيذه . فلم يكن من الممكن أن نسير عشرات الخطوات التي تفصلنا عن (( الجسر )) ، ولم يكن أمامنا إلا أن نعبر النيل في الزوارق إلى الشاطئ الآخر . وخوفاً من أن يفعل آخرون مثل ما فعلنا وما ينجم عن ذلك من خسائر محتمة ، صدرت التعليمات إلى كل الزوارق بأن تترك الشاطئ الغربي للنيل إلى الشاطئ الشرقي أو إلى وسط النهر الخالد .
وكان النظام خارج (( بناء مجلس الثورة )) سائداً . وقفنا نستقبل المعزين من رؤساء الدول ومندوبيهم . البعض كان يبكي ، والبعض الآخر كان حزيناً في صمت ، والقليل منهم كان يؤدي الواجب الرسمي . ووصل الجثمان في طائرة هليكوبتر نقلته بعد أن صلي عليه في قصر القبة . وكان النعش قد صنع بطريقة خاصة لأنه كان متوقعاً أن تخطفه الجماهير . وقوي الهيكل الخشبي بصفائح من الحديد تلتف حوله وبأقفال يصعب فتحها ، ثم ثبت على عربة المدفع التي تجرها الجياد ويحرسها مئات الضباط والجنود .
وكانت الدقائق تمر وكأنها الساعات ، والكتل البشرية تمكنت من التسرب رغماً عن نطاقات الأسلاك الشائكة المضروبة في كل مكان . كان التسرب قليلاً في بادئ الأمر ثم ما لبث أن أصبح عاماً . وبمرور الوقت ، أخذت الكتل البشرية الباكية الناحبة تطغى على المكان الذي ستمر فيه (( الجنازة )) .
وبعد دقائق من سير الجنازة ، لم يعد هناك نظام أو سيطرة ، فقد اختلط الجنود المكلفون بحفظ النظام بباقي طوائف الشعب ، ولم يعد في إمكان أحد أن يسيطر على النظام .
وكان من الصعب على الرؤساء الذين يشيعون الجنازة أن يستمروا في تأدية الواجب الثقيل حتى نهايته . ولم يكن من المناسب أن تتكبد الوفود الأخرى كذلك المشقة الهائلة التي أخذت تتصاعد عند وصول الجنازة إلى كوبري قصر النيل . فأشير على هؤلاء بأن يعودوا مرة أخرى إلى السرادق ، وقد فعل البعض منهم ذلك وأصر الكثيرون على مواصلة السير .
وحينما وصل الموكب إلى قرب (( الهيلتون )) ، ضاق الطريق وزادت صعوبة السير وسقط البعض تحت الأقدام . وقد ساهمت مع آخرين في عمل حلقة دائرية حول هؤلاء لنمنع كارثة محققة وحملنا بعض من سقطوا إلى أسطح بعض العربات التي كانت واقفة هناك وتم نقل هؤلاء بعد ذلك بواسطة آخرين إلى داخل الفندق .
وظهر خطر جديد بطريقة فجائية ، إذ أصر البعض على نزع (( النعش )) من على عربة المدفع التي تجرها الخيول . وهنا استمات الجنود الموجودون حول (( النعش )) ليحولوا دون ذلك ، وأعطى أحد الضباط التعليمات لتعدو الخيول بعربة المدفع حتى تتفادى الكارثة ، ثم نقل النعش بعد ذلك إلى إحدى العربات ليصل إلى جامع (( عبد الناصر )) في كوبري القبة حيث سيتم الدفن .
وتركنا موكب الجنازة بصعوبة وأخذنا بعض العربات من الطرق الجانبية ولحقنا (( بالنعش )) في الجامع وحضرنا الصلاة على الجثمان .
وكانت هناك جماعة الدفن جاهزة خارج المسجد لمواراة الجثمان الطاهر في مثواه الأخير ، وكان يشرف على الجماعة التي ستسد المقبرة المهندس علي السيد رئيس إحدى شـركات المقـاولات في ذلك الوقت ووزير الإسكان بعد حركة 15 مايو – أيار 1971 .
ورأيت الجثمان محمولاً إلى داخل المقبرة ووضع بجوار الحائط الغربي . ورأيت عبد الناصر الذي ظل واقفاً طوال حياته يناضل ويكافح وقد استراح أخيراً في مثواه الأخير . أصبح العملاق ، شأنه شأن أي فرد ، مجرد جثمان وضع إلى جوار حائط ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا عظمة إلا لله ، ولا بقاء إلا لله .
واندفع بعض الضباط ومعه محمد أحمد وبعض أولاد (( الريس )) ليودعوه الوداع الأخير ، ونظروا من خلال الحائط الذي كان يبنى وتضيق فتحاته شيئاً فشيئاً وصفوف (( الطوب أو الطابوق )) ترتفع شيئاً فشيئاً ، ثم انسحب الجميع إلى الخارج وقد ارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل .
وكنت ما زلت واقفاً أراقب وأتأمل وقد هانت أمامي الدنيا وما فيها . هل حقيقة هذه هي الدنيا ؟! هل حقيقة أن الرجل الذي ملأ العالم أجمع بصورته وصوته وعمله قد انتهى به الأمر هكذا إلى جوار حائط وهو ممدد على الأرض ؟!!
ووسط هذه التأملات ، تقدم مني أحد الضباط من حرس (( الريس )) ، قميصه مفتوح وقد ضاع غطاء رأسه والدموع تسيل من عينيه وهو ينتحب وأدى التحية العسكرية وهو مشدود الأعصاب وسألني (( هل صحيح أن عبد الناصر مات؟ )) ، فقلت له (( نعم )) ، فقال (( طيب )) واشتد نحيبه . وبحركة عسكرية دار إلى الخلف ، وذهب .
وانصرفت بعده وقد جفت دموعي .
من كتاب (( مع عبد الناصر ))
لمؤلفه (( أمين هويدي ))
الصادر في بيروت عام 1988