د. حسن حميد
طلبا للاستكشاف، واستعادة ما أخذ، وتعديل ما كان وما صار، أورد تلك الحكاية عن ذلك الزمن البهي الراهج كالضوء، فأقول: ذهب أحد ملاك الأراضي في سورية إلى مصر من أجل مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر لعله يعدل ما اعتقده ظلما حين طبق قانون الإصلاح الزراعي في سورية، والذي ما قضى بتحديد ملكية الأراضي. لم يعترض الرجل على ما قضى به القانون، وإنما اعترض على نوعية الأرض التي بقيت تحت يده، ونوعية الأرض التي أعطيت للفلاحين الذين كانوا يعملون لديه أجراء. لقد أراد أن تكون نوعية الأراضي التي بقيت تحت يده أحسن من تلك الأراضي التي صارت إلى أيدي فلاحيه. كان الرجل يعرف الرئيس شكري القوتلي، فأخذ بطاقته وعليها سطران بخطه، يشفعان له بمقابلة الرئيس عبد الناصر، والطلب إليه بالتسوية إن كانت ممكنة!.
ذهب الرجل إلى القاهرة، ودخل القصر الجمهوري، وعرف بنفسه، فقد كان من أهل المعروفية والحظوة في سورية، ثم مد بطاقة الرئيس القوتلي لمدير التشريفات، فأخذها للرئيس ناصر وعاد، قال للضيف السوري، الرئيس في اجتماع، وهو يريد تكريمك بزيارته في بيته، وتناول العشاء معه هناك، وقد أمر سيادته أن توضع سيارة ومعها مرافقة تحت تصرفك لترى القاهرة وما حولها إلى أن يحين موعد العشاء في الثامنة مساء.
ارتاح الضيف لبادرة الرئيس عبد الناصر، فشكر مدير التشريفات، ومضى لمشاهدة القاهرة شوارع، وناسا، ومقاهي، ونيلا وأهرامات، وأحياء، ومساجد، وقلاعا ثم جاء إلى منزل الرئيس على الموعد ضبطا، فاستقبله الرئيس عبد الناصر بالترحاب والفرح، فهو يأتي من سورية العزيزة على قلبه، كما أنه يأتي من عند شكري بيك المواطن العربي الأول، وبعد ساعات غادر الضيف بيت الرئيس، وقد خرج معه إلى الطرف القصي من الحديقة مودعا!.
بعد عودته من مصر سأل الرئيس القوتلي عن صديقه، وما الذي حدث له في القاهرة، وهل قابل الرئيس عبد الناصر أم لا، وما هي انطباعاته عن الاستقبال، وعن عبد الناصر الذي نزع منه نصف ملكية الأراضي التي كانت بحوزته. فجاء الرجل إلى الرئيس القوتلي، وحدثه عن كل صغيرة وكبيرة، عن كل ما سمع ورأى، فقال:
ذهبت إليه في المساء. مشت السيارة بنا في شوارع عدة، وفجأة توقفت أمام دارة بسيطة لا حرس لها، ولا بوابة، ولا سور، ولا مظاهر مسؤولية أو جاه. قال السائق: تفضل، فنزلت. قلت هذا بيت الرئيس. قال: هذا بيت الرئيس، فتمتمت في قلبي: يا إلهي! لحظات ورأيت الرئيس عبد الناصر يهرع إلي، يأخذني بين ذراعيه الوسيعتين إلى صدره العريض، فخطفتني من وعيي وانتباهي الشديد ابتسامته البيضاء! ودخلنا. سألني عن سورية، ورأي الناس بالوحدة، وما الذي يقوله ملاك الأراضي، وأهل الصناعات والحرف، بعد تنفيذ ما جاء في قانوني الإصلاح الزراعي، والتأميم، وسألني عنك يا فخامة الرئيس! تحدثنا طويلا، وعبر ساعات، إلى أن جاء العشاء الذي كنت أناظر صحونه بطرف عيني. ثم قمت والرئيس إلى طاولة العشاء، بعد أن عرفني إلى زوجته السيدة تحية. كان الطعام من (حواضر) البيت، لبنة، زيتون، بيض، مربى، جبنة، قريش، زعتر. أكلنا ونحن نتمم أحاديثنا، كان الرئيس يسأل عن سورية وأنا أجيب. وشربنا الشاي، ثم القهوة، وجئنا على أحاديث كثيرة في السياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، وأحوال العرب، وتهديدات الكيان الإسرائيلي، وتفاؤله بالثورة الجزائرية، ثم نهضت لأودع الرئيس الذي سألني مرارا، وبلهفة محتشدة بالمودة، إن كان لي طلب لكي يلبيه، فهززت رأسي نافيا. لم أطلب شيئا، واكتفيت بقولي له: لقد جئت للسلام عليكم يا سيادة الرئيس. وخرج معي مودعا إلى حيث تقف السيارة التي تنتظرني، ومضيت!. هنا سأل الرئيس القوتلي صديقه: والأرض؟! ألم تحدثه عنها. قال: لا. قال الرئيس القوتلي: لماذا؟! قال: الحياء منعني، فالرجل يسكن في بيت شديد التواضع. والله واحد من حراس أرضي كان يمتلك بيتا أهم من بيته، والعشاء الذي قدمه إلي، الوكيل عندي كان يقدم لي عشاء أدسم منه!. لقد منعني، يا فخامة الرئيس شكري بيك، أن أطلب شيئا من رجل، تلك كانت أوضاعه، وتلك كانت طيبته!.
ذلك الرجل، حين رحل لم يكن يمتلك سوى ثمانين جنيها باسمه، وأربع (بدلات)، وأربع ربطات عنق، لكي يستقبل بها أهل الجاه والمكانة، ولكي يسافر بها بين الحين والآخر. ذلك الرجل هو جمال عبد الناصر نبات الأرض، الباقي بقاء الأرض!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
. عن صحيفة (البعث) السورية.