بعد أربعين يوماً من رحيل جمال عبد الناصر ، كتب محمد حسنين هيكل مقالاً ربما لم يتوقف عنده إلا القلة القليلة ممن يدققون ويتفحصون ، لكن إعادة قراءته الآن ، من شأنها أن توقظ الذاكرة على حقائق ربما كانت منسية ، لكنها موجودة بكل تأكيد .
وحين نعيد القراءة ، فإننا سوف نستكشف ما لم تفلح الكثرة الكاثرة في استكشافه آنذاك .
واستكشاف متأخر ، خير من غفلة مستمرة .
” الميثاق “
كتب هيكل :
(( ليس من حق أحد بيننا أن تراوده – على نحو أو آخر بقصد أو بغير قصد– فكرة تحويل جمال عبد الناصر إلى أسطورة ..
إن الحب الزائد له والحزن الزائد عليه – وكلاهما في موضعه – يمكن له أن يدفعنا بالذكرى دون أن نشعر إلى صلب الأساطير .
كما أن بعضنا قد يتصور لأسباب شتى أن ذلك مطلوب . والحقيقة أن هذا كله مهما تكن دوافعه يضع جمال عبد الناصر في غير مكانه الصحيح )) .
(( إن الأسطورة تشتمل على إيحاء غيبي ، كما أنها تحمل لمسة مما وراء الطبيعة . وليس من ذلك كله أثر في جمال عبد الناصر . لقد كان أعظم شيء في جمال عبد الناصر أنه كان حياة إنسانية زاخرة ، عاشت على الأرض وبين الناس وتحت أشعة شمس مصر الباهرة . وكان أكثر ما ينفر منه جمال عبد الناصر في حياته هو عبادة الفرد ، ولهذا فإنه ليس من حق أحد بعد الرحيل أن يجعل منه إلهاً معبوداً في هرم آخر على أرض مصر )) .
(( إن جمال عبد الناصر لا يسعده أبداً أن يجد نفسه تمثالاً شاهقاً من الحجر ، وإنما يسعده أن يظل دائماً مثالاً نابضاً للإنسان لحم ودم .. إرادة وأمل .. عقل وعاطفة .. قرارات فيها الصواب وفيها الخطأ . وأحسب أن جمال عبد الناصر هو واحد من القلائل الكبار في عالمنا وعصرنا الذين واتتهم الشجاعة لكي يقفوا أمام الملايين يتحدثون بأمانة ورجولة عن التجربة والخطأ . ولو أردت أن أستعمل أسلوب المجاز لقلت : لا يجب أن تصبح ذكرى جمال عبد الناصر جداراً نقف أمامه في خشوع ورهبة ، وإنما يجب أن تصبح ذكرى جمال عبد الناصر أجمل المروج الخضراء في حياتنا ، نذهب إليها بالحنين والمحبة ونحن نحس بالصفاء الروحي والذهني ، شاعرين أننا في جوها النظيف والطاهر على صلة وجدانية بالضمير الوطني والقومي لشعبنا وأمتنا . أقصد أن ذكرى جمال عبد الناصر لا يجب أن تتحول إلى تراث – أو إرث – نعيش عليه ، ولكنها يجب أن تبقى قيمة نعيش معها .. قيمة لا نقف أمامها بالصمت ولكن ندخل معها في حوار مستمر .. لا نصلي لها .. ولكن نفكر فيها . أعتقد مخلصاً أن جمال عبد الناصر كان يقول بذلك لو كان قد أتيح له أن يبدي رأيه فيه )) .
(( كان – كما قلت – ينفر من عبادة الفرد ، أو على الأقل لا يستسيغ المنطق الذي تستند إليه مهما كانت مبرراته . وأذكر في ذلك وقائع كثيرة تشير كلها إلى ذلك اليقين لديه . كانت هناك تجارب يقدرها حق قدرها ويعجب بما حققت أشد الإعجاب، لكنه كان يصل إلى نقطة تقديس الزعيم فيها ويقول : لا أعرف لماذا تورطوا في مثل ذلك . إنه ليس خطأ في فهم دور الفرد فحسب ، ولكنه يمكن أن يشكل عقبة أمام التطور أيضاً ، لأنه يعطي للأموات وصاية على الأحياء ، وليس ذلك إنصافاً لا للأموات ولا للأحياء . هذه – نقلاً عن مذكرات كتبتها سنة 1958– نصوص كلمات بالحرف )) .
(( ومنذ شهور شاهد في بيته فيلماً صينياً ، وكان الفيلم حافلاً بتصرفات لأبطاله نسبت في كل المواقف لتعاليم ماوتسي تونج . وكان تعليق جمال عبد الناصر على ذلك : إن ماوتسي تونج في رأيي من أعظم رجال هذا القرن ومن الذين أثروا فيه بشكل قاطع وواضح ، ولكنني حقيقة لا أستطيع أن أفهم الفلسفة التي يقوم عليها تقديس الفرد ونسبة المعجزات إليه . وظل هذا الموضوع معه إلى اليوم وبدأه مهتماً بالفلسفة الصينية والشخصية الصينية وبالتاريخ الصيني . وفيها جميعاً ما يسمح بذلك )) .
(( وأذكر مرات بغير عدد حضرت فيها مقابلات جمال عبد الناصر مع معظم الصحفيين الأجانب الذين قابلهم . وكان السؤال المتكرر على ألسنة كثيرين منهم هو : ما السبب الذي تعزو إليه تأثير قيادتك في العالم العربي ؟ ..
وكان رده الذي لا يتغير وعن يقين نافذ إلى الصميم هو : (( إنني لا أقود العالم العربي .. إنني مجرد تعبير عنه في ظرف معين وفي زمان معين )) .. ثم كان يضيف : (( ودوري فيه هو بمقدار تعبيري عنه )) .
ويتذكر هيكل كيف استقبلته دمشق التي أحبها من أول نظرة .. كيف حملته الجماهير هو وسيارته على الأعناق .. وسأل هيكل رأيه فيما حدث .. فكان الجواب : (( لو أنك كنت شخصاً آخر غير من أعرف لكنت قد قلت لك : تذكر أنك بشر )) .
وكان أن قال على الفور : (( غريبة .. لقد كنت أفكر في شيء من ذلك طول الوقت .. لقد كنت أقول لنفسي وأنا أشاهد ما شاهدت : لا تنس نفسك .. هذا كله ليس لشخصك .. ذلك كله لأمل عند الناس في الوحدة )) .
ويخلص هيكل من ذلك ومن غيره : أن عبد الناصر كان ابناً شرعياً لأمته وعصره ، وقد جاء مسلحاً بموهبة الاتصال بالجماهير والتفاعل معها ، ونجح في الوصول إليها عبر الميكروفون ، وعبر تجارب الصواب والخطأ . وخلال 18 سنة كان فيها على القمة ، ترك 3 آلاف ساعة مسجلة بصوته وصورته ، وألف ساعة مسجلة من اللقاءات والمحاضر الرسمية . (( وأما عن أبرز مميزاته فهي أنه نجح في أن ينقل الشارع إلى السياسة العليا .. وأن ينقل السياسة العليا إلى الشارع )) .
(( إن الرسالات السماوية غير الرسالات الإنسانية . الرسالات السماوية نصوص يجب التقيد بها لأنها وحي إلهي ، أما الرسالات الإنسانية كمنهاج للتفكير والعمل ، تقابل ظروفاً متغيرة ، ولا يمكن على الإطلاق مواجهتها بمنطق أنها (( نص لكل زمان ومكان )) . ولو نظرنا إلى تجربة عبد الناصر على أنها نصوص، فإننا قد نجد أنفسنا في محظور التجميد ، بينما التجارب الأصيلة يجب أن يتاح لها فرصة التجديد .
وقد كان عبد الناصر نفسه يحلم بتجديد شباب الثورة ، وتجديد قيادتها ، ووسائل تقييمها )) .