لا … إنها ليست مجرد صدفة
د. بارعة القدسي
(1)
تماما مثلما أن أحد المفكرين العرب كان يقول إن التاريخ ليس مؤامرة، ولكن في التاريخ مؤامرة، فإنه يمكن القول إن وقائع التاريخ لا تقع بفعل الصدفة، لكن الصدفة موجودة في وقائع التاريخ.
(2)
وحين أحاول تقديم الإجابة التي أنا بها قانعة ومقتنعة عن التساؤل الكبير الذي اخترناه عنوانا عريضا لهذا العدد الخاص الأول الالكتروني من (الميثاق)، وهو عما إذا كانت هناك جسور موصولة بين ما كان في 28 أيلول 1961، وأعني به انفصال سورية عن جمهوريتها العربية المتحدة، وما كان بعد ذلك بتسع سنوات على وجه التحديد والتعيين في 28 أيلول 1970، وأعني به رحيل القائد المعلم جمال عبد الناصر، أم أن توافق هذين التاريخين ليس أكثر من صدفة، وفي التاريخ العدد الوفير منها، فإني سوف أبادر إلى القول إن هذه الجسور الموصولة موجودة. قد تكون جسورا افتراضية، ولكن من ذا الذي يملك إنكار أن ما هو افتراضي قد يكون في العديد من الأحيان واقعا حيا ومعاشا؟. ومن ذا الذي يستطيع المجاهرة بأن الواقعة التاريخية لا يمكن أن تكون في الأصل وفي الأساس تعبيرا عن حالة افتراضية؟.
(3)
وانطلاقا من هذه الرؤية الافتراضية التي قد تكون الإبنة الشرعية لواقع لا يمكن إشاحة الوجه عنه، فإني أرى، ولو بعد كل هذه السنوات التي مضت وانقضت، أن هناك صلة ما، قد لا تكون مرئية أو واضحة بما فيه الكفاية، بين هذا اليوم وذاك، وبين الانفصال والرحيل، وبين المؤامرة والغياب.
(4)
لماذا لا نعمد إلى تنشيط مخيلتنا السياسية بحيث نجعلها تتلمس احتمالا قائما مفاده أن جمال عبد الناصر، بصرف النظر عن الأسباب الظاهرة لوفاته، استعاد من ذاكرته فيما كان يسعى إلى إيقاف سفك الدم الفلسطيني في الأردن، وفيما كان يلوح بيديه في وداع آخر حاكم عربي مغادر إلى بلاده بعد مشاركته في أعمال القمة العربية، كيف أنه في مثل هذا اليوم قبل تسع سنوات تبددت أحلام تحققت، وتبخرت أمان تجسدت، وتفككت دولة كان يمكن لها فيما لو استمرت، أن تفعل في أمتها فعلا ينتقل بها مما هي فيه، إلى ما ينبغي أن تصير إليه؟.
(5)
لماذا لا نفترض أن جمال عبد الناصر، وفي تلك اللحظة التي داهمته فيها الأزمة القلبية القاتلة، استحضر من ذاكرته كيف أن الدبابات التي نزلت إلى شوارع دمشق في يوم الانفصال، هي نفسها الدبابات التي تقدمت على ثلاث جبهات في الخامس من حزيران عام 1967.
ولماذا لا نفترض أن جمال عبد الناصر استذكر في تلك اللحظة كيف أن خنجرا مسموما طعنه في موضع القلب من جسده، وهو القائل إن طعنة العدو تجرح، لكن طعنة الصديق تدمي القلب؟.
(6)
أن تتزامن الواقعتان في 28 أيلول قد يبدو للوهلة الأولى أمرا غير قابل للتفسير، أو حتى للتصديق، ولكن من ذا الذي قال إن وقائع التاريخ وأحداثه الكبرى ليس فيها العديد والوفير مما يبدو غير قابل للتفسير ولا للتصديق؟.
لا أظن أن أحدا قد قال ذلك.